الواقع أن أي فكر يقصي الطرف الآخر ويرفض وجوده هو فكر مرفوض إنسانياً. وأنا شخصياً أؤمن بأن التسامح أمر جوهري من رسالة الإسلام. ولا يمكن لأي رسالة أن تكون إنسانية أصلاً إن لم تحمل في نواتها مفهوم التسامح وقبول الآخر. سأحاول في هذه التدوينة إلقاء الضوء على هذا الموضوع من منطلق إنساني – إسلامي.
بدايةً لابد من التأكيد على أن التسامح لا يعني التطابق. فكل ديانة أو فلسفة تثبت في نصوصها وفي أذهان اتباعها بأنها الديانة الوحيدة الصحيحة وبأن جميع الديانات الأخرى خاطئة. ففي الإسلام مثلاً نجد النص القرآني الصريح: ((ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه)). والاختلافات بين الديانات عميقة جداً سواءً في فلسفة الحياة والوجود أو في رؤيتها للإله أو في وظيفة الإنسان. طبعاً يوجد جانب أخلاقي يجمع معظم الديانات. وبعبارة أدق، توجد تفاسير لكل ديانة تؤكد على الجانب الأخلاقي الإنساني وتتفق إلى حد كبير مع أحد التفاسير الموجودة في الديانات الأخرى.
ويلعب عاملان اثنان في تبني الإنسان لدين أو فلسفة معينة، الأول هو دين الآباء أو البيئة التي نشأ فيها، والثاني هو الدليل والبرهان. فمعظم الناس ورث دين آبائه. ويحاول بعد ذلك إقامة البراهين على صحة هذا الموروث.
وبالتالي إذا نظرنا للموضوع بطريقة منطقية نرى ما يلي: لدينا مجموعة من الديانات، صحة أي ديانة منها يقتضي حتماً بطلان الديانات الأخرى (لأن كل ديانة تنص على أنها الديانة الوحيدة الصحيحة بالإضافة للاختلافات الجذرية بينها). وبالتالي إما أن جميع هذه الديانات -بهذا الشكل- خاطئة، أو أن هنالك ديانة وحيدة صحيحة فقط. وصحة دين معين قضية لها جانبان. الجانب الأول إلهي بمعنى أن الله تعالى يعرف حتماً الدين الوحيد الصحيح لأنه هو الذي أنزله. والجانب الآخر بشري، حيث يختار الشخص الدين الذي يعتقد بأنه صحيح بعد اقتناعه بالبرهان.
ولايوجد في الأديان ما يسمى (البرهان العام الحتمي). بمعنى أنه لايوجد برهان وحيد وصريح وقاطع وغير قابل للنقد وصالح لكل زمان ومكان يثبت صحة دين معين. فلو سألنا كل قارئ مثلاً، ما هو سبب اعتقادك بأن دينك هو الصواب؟ سنجد مجموعة من الإجابات المختلفة، وهذه الاجابات ستكون مختلفة عن الإجابات التي يمكن أن نحصل عليها لو طرحنا السؤال قبل 500 عام مثلاً. والأدلة التي آمن بها المسلمون في عصر رسول الله تختلف في طبيعتها عن الأدلة التي يؤمن بها مسلمو هذا العصر، ولكل عصر مجموعة من الأدلة والمحاكمات التي تثبت وجود الله تعالى وتثبت صحة الدين. وحتى ضمن العصر الواحد تختلف الأدلة والمناقشات بحسب المستوى الثقافي والفكري لكل فرد.
ولهذه النظرة نتائج مهمة. أولها أن يقين الإنسان بصحة دين معين هو يقين نسبي، نسبةً إلى برهان. ويختلف تماماً عن اليقين المطلق الذي هو فرع من علم الله تعالى. ومن الممكن جداً أن ينهار ذلك البرهان فيدخل الإنسان في مرحلة الشك وقد يؤدي ذلك إلى تغيير دينه بالكلية. وثانياً أنه لا يشترط أن يقنع البرهان الذي اعتمد عليه أنا شخصاً غيري. لأن هذا البرهان يتعلق بنظرة الإنسان للحياة وخبرته فيها والمعارف التي اكتسبها.
إن ما سبق يستلزم أن يتواضع الإنسان عندما يتحدث عن الله وعن دينه وديانات الآخرين. والتواضع هنا دليل أنه يعلم حقيقة إنسانيته وحجم إيمانه. فاعتقاد الإنسان بدين معين لا يبرر له إطلاقاً إغلاق عقله عن سماع الآخرين أو إقصائهم أو إطلاق الأحكام في حقهم وكأنه الإله الذي خلقهم. لأن جميع أحكامه مرهونة بالبرهان الذي يمكن أن ينهار ببساطة. وتزداد حدة المشكلة عندما نتبنى تفسيرات معينة للنصوص التي تتحدث عن مصير من لم يؤمن بالدين الذي نؤمن به. والذي يغيب عن بال الكثيرين أن هذه النصوص في حق البشر متعلقة بالبرهان. وبالتالي فإن دخول إنسان إلى جهنم ليس نتيجة لمجرد عدم إيمانه بالدين وإنما نتيجة رفضه للبرهان بعد اقتناعه بصحته.
والآيات واضحة بهذا المعنى، منها: ((كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير؟ قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء)) فقبل أن يدخل أي إنسان لجهنم يتم سؤاله: ألم تكن تعلم بأن هذا الدين حق؟ فيجيب: بلى ولكنني كذبت! وبالتالي أن نحمل هذه الآية ونركض بها قائلين: “المسلمون فقط في الجنة” هو أمر غير صحيح.
بهذه المناقشة الفلسفية يمكن أن نفهم وجود الآيات التي تناقش وتدحض معتقدات الديانات الأخرى مع وجود آيات من أمثال (( لا إكراه في الدين )). فالإسلام فكرياً وعقائدياً يتعارض مع الديانات الأخرى، ولكن الإنسان يؤمن بالدين بعد البرهان، وبما أنه لايوجد برهان عام يقنع الجميع فإنه من الممكن ألا يقتنع البعض بهذا الدين. وبالتالي فإن التسامح ضرورة إنسانية يجب أن يوافقها الدين إن كان إنسانياً حقاً.
كما أن هذه النظرة تبين أن علاقة الإنسان بالإنسان يجب أن تكون محكومة بالبعد الإنساني أولاً، فإن لم يقتنع إنسان ما بديني، فهذا ليس بمبرر منطقي لأن أكرهه أو أن أحقد عليه أو أن أضع حاجزاً بيني وبينه. لأننا في هذه النقطة – نقطة الإيمان بالدين – متكافئان تماماً. هو ابتدأ إيمانه وراثةً وأنا كذلك، وهو اقتنع ببرهانه ولم يقتنع ببرهاني وأنا كذلك. فإن كان ذا خلق وأدب، فلماذا لا أحبه وإن اختلفنا في الدين؟